بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ،
في مفترق الحياة ، ودوامة الدنيا ، يحتاج الإنسان إلى ملاذ يلجأ إليه ويمده بالقوة ، .. لا أعني بالقوة هنا الحديد والنار ونحوهما ، بل القوة التي يتميز بها الإنسان عن سائر البهائم والحيوانات ، القوة الشفافة - إن صح التعبير - قوة الإيمان .. والصبر .. والتضحية .. والإرادة .. وسائر المثل العليا ، هذه القوة التي وإن سقط جسد صاحبها أرضاً أمام القوى الحسية فإن اسمه وذكره يظل عالياً خفاقاً في سماء المجد والكرامة .
مصدر هذه القوة قد يكون من القوة الخفية لله سبحانه وتعالى ، تلك القوة التي يشعر بها المقربون الذين وصلت بهم المعرفة إلى أعلى الدرجات ، وقد تكون بواسطة القوى الحسية التي تتجلى في حياة الأسوة الحسنة والتي ترفع الهمة والعزيمة عند أتباعهم ، وتهون عليهم عثرات الزمان . والقارئ لكتاب الله يعلم مدى حرص القرآن على سرد قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكأنه يواسي الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ومِن بعده أمته جمعى ، ويعطيهم العزيمة ... والقوة التي تحدثنا عنها ، فكانت آيات كتاب الله من نحو : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) ، هي الملاذ لرسولنا صلى الله عليه وآله وسلم .. تزيده عزيمة وإرادة وقوة إلى عظيم قوته .
فإذا كان ذلك النبي على عظمته وعلو شأنه قد اهتم رب العالمين جل ثناؤه بإعطائه الجرع المعنوية عن طريق آيات كتابه .. أفلا نكون نحن أكثر احتياجاً لمثل ذلك ؟! فأين ؟! وكيف ؟!
نعم ؛ نحن محتاجون بل في أمس الحاجة إلى مصدر لتلك القوة ، ولذلك ، - ولغيره من الأسباب - اصطفى الله بيتاً مباركاً وضع فيه آياته وبيناته ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وأفاض على أهله ألطافه وإنعامه ، وأسبل عليهم رحمته الظاهرة والباطنة وملأهم هدى وخصهم بالنور الزائد ، وجعلهم ملاذ هذه الأمة ، ومنار كل سالك ، جعلهم الله مصدر كل قوة ... ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) .
الإعداد الإلهي كان محركاً أساسياً .. وفي زواج الزهراء عليها السلام دليل واضح على ذلك ؛ يقول أبوها خير الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله : ( إنما أنا بشر مثلكم ،أتزوجكم وأزوجكم إلا فاطمة - عليها السلام - فإنه نزل تزويجها من السماء ) .
إذا القضية هي قضية إلهية خاضعة لقوانين خاصة البشر ليس لهم أن يتدخلوا فيها ، إنها قضية إعداد الصفوة الذين علم الله علام الغيوب استحقاقهم لأن يضع فيهم رسالته ويقرنهم بكتابه .. ، إنه إعداد للسفينة التي لا ينجو إلا من ركبها من بحور الضلال : ( مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ) .
فمِن أكرم معدن اختار الله محمداً ، واختار صنوه علياً ، ثم جمع ذريتهما بواسطة الزهراء ، فكان أول ريحانة من تلك الرياحين الحسن بن علي .. تلاه الحسين .. ( سيدا شباب أهل الجنة ) .. تلاهم أبناؤهم إلى أن تقوم الساعة ( كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) .
وتأمل في قصة المباهلة وقصة نزول سورة الكوثر تجد دلالات واضحة على ما نقول ، ثم اقرأ قوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) متأملا حديث الكساء ، ثم اقرأ سورة الإنسان ، واسأل نفسك : ما سر هذا الاهتمام الرباني الشديد بهذا البيت ؟ آية بعد آية بل سور ينزل بها جبريل عليه السلام إلى رب البيت النبوي محمد صلوات الله عليه وآله تقر عينه في أهل بيته ، إنه ولا شك قوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي لا ينكر : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) .
إن السر هو القوة التي قدمناها وذكرنا احتياجنا وشدة احتياجنا إليها .. ففيهم .. في ذلك البيت النبوي وضعت القوة . وفي حياة أولئك الصادقين نستجلي تلك القوة التي تروي هواجرنا ، وتزيدنا ثباتاً ويقيناً .
ولنا وقفة قصيرة مع أحد أولئك الصادقين ، ننهل من مورده العذب ، ونستضيء بنوره الوضاء ، .... إنه ( سيد شباب أهل الجنة ) ، و( ريحانة الرسول من الدنيا ) و( إمام قام أم قعد ) كما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم .
بُشِّربه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كأول مولود للزهراء فلذة كبده ، وما لبث أن نزل الروح الأمين جبريل عليه السلام في مهمة رسمية .. هي تبليغ التهاني لرسول الله بمولده الجديد ، والإعلان الإلهي لاسم هذا المولود الذي صار رابع أربعة هم بيت النبوة والرسالة ، فالعناية الإلهية كانت تحيط بذلك البيت حتى أن تسمية أبنائه تتدخل فيه الإرادة الربانية فأعظِم به من بيت وأكرم ، أمر جبريل - بأمر من الله تعالى - بتسمية المولود بمثل اسم ابن هارون ( شبر ) وفي العربية ( حسن ) فكان الحسن .. وما أدراك ما الحسن !!
رضع من ثدي فاطمة الزهراء ، وتنقل بين حجر جده المصطفى وأبيه المرتضى .. يغذونه بالمكارم والفضائل ... في بيت يزوره عظيم الملائكة جبريل كل يوم .. ، كان في لسانه ثقل فقال سلمان الخير رضي الله عنه : أتته من قبل عمه موسى عليه الصلاة والسلام . ورّثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هيبته وسؤدده فنعم الوارث والموروث ، وكان يشبه جده من سرته إلى أعلاه كما أن أخاه الحسين عليه السلام يشبهه من سرته إلى أسفله ، فقد ورثا من رسول الله كل شيء حتى الصورة الرضية صلوات الله عليهم .
ونشأ نشأة نبوية علوية تتلقاه المكارم من كل جانب ، لا يدخل أذنه إلا كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كان ابناً لرسول الله - إذ يقول الرسول : ( كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وأنا عصبتهما ) - فقد اهتم صلوات الله عليه وآله كثيرا بتربيته ، فها هو يلقنه درر كلامه الجوامع من نحو : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) و ( صل صلاة مودع ) و ( إياك وما يعتذر منه ) ، كلما زاد من عمره يوماً زادت العناية النبوية حياطة له .
عن زيد بن أرقم قال : خرج الحسن عليه السلام وهو صغير وعليه بردة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب ، فعثر فسقط ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطبة ، ونزل مسرعا إليه وقد حمله الناس ، فتسلمه وأخذه على كتفيه وقال : ( إن الولد لفتنة ، لقد نزلت إليه وما أدري ) . ثم صعد فأتم الخطبة . فما كان أشد حبه له .
وفي غمرات المرض ، وبينما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعاني سكرات الموت .. يغشى عليه بين الفينة والأخرى من شدة المرض ، ازدادت رغبته في القرب من الحسن والحسين ، فدعاهما وضمهما إليه ليشبع رغبته منهما .. إذ كان على علم بما سيحصل بهما من بعده ، فعسى ضمهما إلى صدره يطفئ أو يقلل لهيب ألمه عليهما ، ثم أغشي عليه بأبي هو ، فجعل علي عليه السلام يرفعهما عنه ، فانتبه الرسول الكريم وقال : ( دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما ، فإنه سيصيبهما بعدي أثرة ) . ثم التفت إلى الحاضرين مؤكداً ما كرره مراراً على أسماعهم قائلاً : ( أيها الناس ؛ إني قد خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي ، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي ، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي ، أما إن ذلك لن يفترق حتى ألقاه على الحوض ) .
ومرة أخرى والرسول ما يزال على فراش المرض ، وبينما هو يوصي من في البيت واحداً واحداً ، جاءت فاطمة عليها السلام بالحسنين وقالت لهما : ادنوا من جدكما فسلما عليه . فدنوا منه وقالا : يا جداه . ثلاثاً ، ثم بكيا وقال له الحسن : ألا تكلمنا كلمة وتنظر إلينا نظرة . فبكى علي عليه السلام والفضل وجميع من في البيت من النساء ، وارتفعت أصواتهم بالبكاء ، ففتح رسول الله عينه وقال : ( ما هذا الصوت ) ؟ فقالت فاطمة : يارسول الله ؛ هذان ابناك الحسن والحسين كلماك فلم تجبهما فبكيا وبكى من في البيت لبكائهما . فقال رسول الله : ( ادنوا مني ) ، فدنا منه الحسن عليه السلام فضمه إليه وقبله ودنا الحسين منه ففعل به مثل ذلك ، فبكيا ورفعا أصواتهما بالبكاء ، فزجرهما علي عليه السلام وقال : لا ترفعا أصواتكما . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( مه ياعلي ) ثم قال : ( اللهم إني أستودعكهما وجميع المؤمنين من أمتي ) ، وغادر الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، مخلفاً في أمته وديعته ، عترته ؛ الحسن والحسين وذريتهما ، وما كان أسرع لحوق الزهراء صلوات الله عليها به .
وشب الحسن عليه السلام بين يدي والده ، يرفع له كل يوم من الأخلاق علماً وينير له إلى أفاضلها طريقاً ، فلم يدع مكرمة إلا وضرب فيها بأروع نصيب ؛ التقوى ، الشجاعة ، الكرم ، الزهد ، الورع ، الصبر ،التضحية الإيمان ، ... كيف لا وهو رضيع النبوة وربيب الرسالة ، ومن شابه أباه فما ظلم – كما يقال - !! وما ظنكم برجل له أبوان أحدهما سيد الأولين والآخرين ، وثانيهما سيد الأوصياء والمتقين ، وله أم هي سيدة نساء الدنيا والأخرى .. !!
روي أنه خرج عن ماله كله مرتين جاعلاً لماله قربة لله ، وقاسم الله ماله ثلاثاً .. حتى أنه كان يعطي نعلاً ويمسك نعلاً ، ويعطي خفاً ويمسك خفاً ، وحج مع أخيه بضعا وعشرين حجة ما شيين متقربين بمشيهما إلى الله وإن النجائب تقاد ، ولما كان الحجاج السائرين معهم يعرفون قدرهما العظيم كانوا يلحّون في طلب ركوبهما فلا يقبلان ، وعند ذلك كان الحُجّاج ينزلون عن مركوباتهم تعظيماً لشأنهما ، فمَنِ الذي يركب وابنا رسول الله ما شيان على أقدامهما ، ولصعوبة ذلك على الحجاج شكوا إلى الحسنين عليه السلام ذلك ، وبأخلاق نبوية راقية ورفعاً للحرج عن المؤمنين تنكبا الطريق وجعلا يمشيان على جانبها .. نعم ؛ يحق لمثلهما ذلك !!
وكان الحسن عليه السلام قوي القلب شديد الشجاعة بل كان في صفين ليثها الهصور يندفع إلى القتال بكل قوة وشجاعة لدرجة أقلقت أباه أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أملكوا علي هذا العلام لا يهدني . وذلك لأنه خاف أن يقتل وفي صلبه ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أو نصف الذرية الطاهرة .
وظل أمير المؤمنين عليه السلام يمد فلذة كبده الحسن بنصائحه ويحوطه بعنايته ، وحقاً إن تلك النصائح لها أن تخط بالذهب وأن يقرأها كل طالب للشرف والمجد ، فمنها رسالة كتبها له بحاضرين عند انصرافه من صفين قال فيها :
من الوالد الفان المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا، السكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غداً . إلى المولود المؤمل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ... ثم جعل يسرد فيها درر المواعظ وجواهر الحكم التي لو أراد أحد شرحها بتحقيق معانيها لا حتاج - بلا مبالغة - إلى مجلدات ، وهكذا ظل أمير المؤمنين المنهل الذين يغترف منه الحسن عليه السلام عذب النصائح التي تزيده ثباتا على الصراط المستقيم .
كان آخرها تلك الوصية العظيمة التي قالها أميرالمؤمنين وهو ينازع الموت في سكراته ، وكان مما قال فيها : ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ... ثم أودع وصيته تلك نفحة ربانية ، لم يمنعه عنها جريان دم رأسه على جبينه ووجهه بعد ضربة المرادي الشقي ، والتي هي كسابقاتها تستحق أن تكتب بخالص الذهب وأن تصل إلى كل طالب للعلا ، فاطلبها أخي القارئ هي وأخواتها في نهج البلاغة وغيره من كتب الآثار .
وارتفعت روح أمير المؤمنين عليه السلام إلى الرفيق الأعلى في ليلة ( خير من ألف شهر ) وصلى عليه الحسن عليه السلام ثم دعا بعد دفنه إياه ابن ملجم فأتي به فأمر بضرب عنقه ، فقال المرادي : إن رأيت أن تأخذ علي العهود أني أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ماذا فعل صاحبي بمعاوية فإن كان قد قتله وإلا قتلته ، ثم عدت إليك فتحكم في بحكمك . فقال له الحسن عليه السلام : هيهات ، والله لا تشرب الماء البارد أو تلحق روحك بالنار . ثم ضرب عنقه .
وكان الإمام الحسن عليه السلام أحق الناس بالوقوف في موقف أبيه أمير المؤمنين – هذا إن كان لغيره وأخيه أحقية أصلاً - ، ولكن كان من حظه أن يقف ذلك الموقف في وقت اشتدت فيه النزاعات وتكاثرت الفتن ، وكثر الدجالون ، وأبدى المنافقون مكنونات أنفسهم ، وكان أول موقف يقفه خطبته التي قالها عقيب وفاة أبيه سلام الله عليه ، وقال فيها : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون بعمل . لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
فيسبقه بنفسه ؛ ولقد كان يوجهه برايته ، فيكنفه جبرائيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه ؛ ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ؛ والتي توفي فيها يوشع بن نون، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله .
ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ثم قال : أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير ، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، والذين افترض الله مودتهم في كتابه ، إذ يقول : ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ) ، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت .
فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا وقالوا : ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة . فبايعوه ، ثم نزل من المنبر . وفي رواية أخرى أن قيس بن سعد بن عبادة قام بعد الحسن فخطب الناس ثم قال : ابسط يدك يا ابن رسول الله أبايعك . فبسطها فبايع ، ثم بايع الناس بعده ، فكان عليه السلام يقول للرجل : تبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، سلم لمن سالمت ، حرب لمن حاربت . فعلموا أنه يريد الجد في الحرب ، فكان أمير المؤمنين أوصاه بذلك عند وفاته .
وكانت بيعته عليه السلام يوم الأحد الثاني والعشرين من رمضان سنة أربعين ، ووردت عليه بيعة أهل البصرة والعراقين والحجاز ومكة والمدينة واليمامة والبحرين ، وأقر عمال أبيه عليه السلام على أعمالهم وبسط فيهم العدل ، وكان أول شيء أحدثه عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة ، واستقامت له النواحي إلا الشام والجزيرة ومصر . وكانت نيته عليه السلام مجابهة الخارجين عن الطاعة .
وقبل أن يبدأ بقتال أولئك القاسطين على لسان جده المصطفى صلوات الله عليه وآله والفئة الباغية على لسانه أيضاً ، أرسل إلى زعيمهم كتاباً عله يرجع إلى رشده ، قال فيه : من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ، ( لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) ، فبلغ رسالات الله ، وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وانٍ ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخص به قريشاً خاصة فقال له : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) . فلما توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم ، وسلمت إليهم . ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجّتهم ، وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا ، فالموعد الله ، وهو الولي النصير .
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقين عن قليل ربك ، ثم ليجزينك بما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد . إن علياً لما مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ، ويوم يبعث حياً - ولاني المسلمون الأمر بعده ، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين ، فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب . واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ، ليطفئ الله النائرة [ العداوة ] بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت ،إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .
فلما قدم رسولا الحسن إلى معاوية دعواه إلى البيعة فلم يجبهما ، وكان جوابه على كتاب الحسن عليه السلام : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ، سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت به محمداً رسول الله من الفضل ، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه ، وصغيره وكبيره . وقد والله بلغ وأدى ، ونصح وهدى ؛ حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته ؛ وصلوات الله عليه يوم ولد ، ويوم بعث ، ويوم قبض ، ويوم يبعث حيا !
وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنازع المسلمين الأمر بعده ، وتغلبهم على أبيك ، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصلحاء المهاجرين والأنصار ، فكرهت ذلك لك ؛ إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين [ المتهم ] ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد ، والذكر الجميل .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله